فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَالنازعات غرقاً (1)}
التفسير:
في الكلمات الخمس المذكورة في أول السورة وجوه على نسق ما سبق في المرسلات أحدها: أنها صفات طوائف الملائكة الذين ينزعون نفوس الكفرة من بني آدم غرقاً أي نزعاً بشدّة من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها. والغرق والإغراق في اللغة واحد يقال: نزع في القوس فأغرق أي بلغ غايته حتى انتهى إلى النصل، وبالذين يجذبون نفوس المؤمنين برفق ولين كما ينشط الدلو من البئر، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر بإذن الله أمراً من أمور العباد أو جنس الأمر.
قال مقاتل: يعني بهذه الطوائف جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأعوان كل منهم. فجبريل موكل بالرياح والجنود، وميكائيل موكل بالقطر والنبات، وإسرافيل بنفخ الصور، وملك الموت عزرائيل وأعوانه بقبض الأرواح.
قال الإمام فخر الدين الرازي: {النازعات} هم الذين نزعوا أنفسهم عن الصفات البشرية والأخلاق الذميمة من الشهوة والغضب والموت والهرم والسقم لأنهم جواهر روحانية مجردة، و{الناشطات} إشارة إلى أن خروجهم من هذه الأحوال ليس على سبيل الكلفة والمشقة ولكنه بمقتضى الطبيعة والماهية، و{السابحات} هم الذين سبحوا في بحار جلال الله فسبق بعضهم بعضاً في ميدان العرفان وحلبة البرهان فدبروا أمر العالم العلوي والعالم السفلي بإذن مبدعهم المنّان.
أقول: ويمكن حمل هذه الأمور على مراتب النفس الإنسانية بمثل التقدير المذكور.
الوجه الثاني وهو قول الحسن البصري أنها النجوم وتلخيص ذلك على الوجه المطابق للغة والشريعة أنها تغرق شبه النزع من المشرق إلى المغرب بالحركة السريعة، وتنشط نشطاً أي تخرج من برج إلى برج من قولك (ثور ناشط) إذا خرج من بلد إلى بلد، وهذا بحركته البطيئة الثابتة. وأما {السابحات} فهي السيارة كقوله: {كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33] ولأن سيرها المتفاوت يصير سبباً لسبق بعضها بعضاً، ويترتب على السبق الاتصالات والانصرافات ومعرفة الفصول والأوقات وتقدّم العلم بالكائنات بل العالم السفلي وتدبيراتها مناط بتلك الحركات بإذن خالق الأرض وفاطر السموات فلهذا أدخل الفاء في القرينيتين الأخريين دون الأوليات. الوجه الثالث أنها صفات خيل الغزاة تنزع في أعنتها نزعاً، تغرق الأعنة فيه لطول أعناقها لأنها عراب، وهى ناشطات تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، وهي سابحات تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر وتتسبب فيه. الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم {النازعات} أيدي الغزاة وأنفسهم تنزع القسي بإعراق السهام، و{الناشطات} السهام الخارجة من أيديهم أو قسيهم، و{السابحات} الخيل العاديات أو الإبل، والمدبرات بمعنى المعقبات لأنها تأتي في أدبار هذه الأفاعيل بأمر الغلبة والنصر.
قال جار الله: {يوم ترجف} منصوب بجواب القسم المحذوف وهو (لتبعثن).
وقوله: {تتبعها} حال. ثم أورد على نفسه أن هذا يوجب أن يكون البعث عند النفخة الأولة وأجاب عنه بأنهم يبعثون في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان كما يقال (رأيته عام كذا) وإنما رؤيته في ساعة منها. و{الراجفة} الواقعة التي {ترجف} عندها الأرض والجبال وهي النفخة الأولى فهي من الإسناد المجازي. و{الرادفة} رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء، وقد ورد الخبر أن ما بين النفختين أربعون عاماً. ويروى أنه تعالى يمطر الأرض في هذه الأربعين ويصير ذلك الماء عليها كالنطف فيكون سبباً في الإحياء ولله تعالى أن يفعل ما يشاء.
وقيل: {الراجفة} هي النفخة الأولى، و{الرادفة} هي قيام الساعة من قوله تعالى: {عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} [النمل: 72] وقيل: {الراجفة} الأرض والجبال من قوله: {يوم ترجف الأرض والجبال} [المزمل: 14] و{الرادفة} السماء والكواكب لأنها تنفطر وتنتثر على أثر ذلك.
وقيل: {الراجفة} هي الأرض تتحرك وتتزلزل، و{الرادفة} زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى.
قال أبو مسلم بناء على تفسيره الذي روينا عنه إن كلاً من {الراجفة} و{الرادفة} هي خيل المشركين وأريد بهما طائفتان من المشركين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعت إحداهما الأخرى. والقلوب الواجفة أي القلقة، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين على الأقوال القلوب الموصوفة مبتدأ. وقوله: {أبصارها خاشعة} خبره وفي الكلام إضمار أي أصحابها خاشعة بدليل قوله: {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة} أي الحالة الأولى وهي الحياة وأصله من قولهم (رجع فلان في حافرته) أي طريقه التي جاء فيها، جعل أثر قدميه حفراً فالطريق في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت خافرة على الإسناد المجازي أو على وتيرة النسبة أي ذات حفر كما قلنا في {عيشة راضية} ونحوه {كرة خاسرة} كما يجيء.
ثم زادوا في الإنكار مع إشارة إلى وجه الإحالة قائلين {أئذا كنا عظاماً نخرة} نردّ أو نبعث. يقال: نخر العظم فهو نخر وناخر مثل حذر وحاذر وهو الأجوف البالي الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخر وهما لغتان فصيحتان، لأن النخر وإن كان أبلغ في المعنى إلا أن الناخرة بالألف أشبه بأخواتها من رؤوس الآي. ثم أخبر أنهم قالوا على سبيل الاستهزاء {تلك} الكرة {إذا} أي إذا نحشر ونردّ ونرجع {كرة خاسرة} رجعة ذات خسران لأنا كذبنا بها. ثم أفحمهم بقوله: {فإنما هي زجرة} أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فما هي إلا صيحة {واحدة} يقال: زجر البعير إذا صاح عليه وهي صيحة إسرافيل في النفخة الثانية. يروى أنه تعالى يحييهم في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون. والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن ساكنها لا ينام خوف الهلاك، أو لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة أي جارية. والأظهر أنها أرض الآخرة.
وقيل: هي أرض الدنيا ثم ذكرهم بقصة موسى لأنه أبهر الأنبياء المتقدّمين معجزة وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأن فرعون كان أكثر جمعاً وأشدّ قوة من كفار قريش. والوادي المقدّس المبارك المطهر، و{طوى} اسم واد بالشأم عند الطور وقد مر في (طه). قوله: {هل لك} الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي هل لك حاجة أو ميل أو التفات ونحو ذلك، وهذه كلمة جامعة لمواجب التكاليف لأن الملكف لا يصير زاكياً إلا بالتخلية عن كل ما لا ينبغي، ويجوز أن يكون التزكي إشارة إلى تطهير النفس الفاسدة. قوله: {وأهديك} إشارة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة أقلها وأفضلها التوحيد المرتب على الخشية التي منها تنشأ جوامع الخيرات ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» وعن بعض الحكماء: اعرفوا الله فمن عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفه عين. ثم هاهنا إضمار كأنه قال: فذهب موسى إلى فرعون فقال له ما أمر به فلم يصدقه فرعون وجحد نبوته {فأراه} وفي ابتداء المخاطبة بالاستفهام الذي معناه العرض من التلطف والمداراة ما لا يخفى فهو كقوله: {فقولا له قولاً ليناً} [طه: 44] و{الآية الكبرى} العصا أو اليد أو هما كما مر في (طه) {فكذب} بالقلب واللسان إذ نسب المعجز إلى السحر {وعصى} بإظهار التمرد الطغيان {ثم أدبر} خوفاً من الثعبان {يسعى} هارباً أو يتحيل في دفع موسى أو تولى عن موسى إظهاراً للجحود. وجوز أن يكون {أدبر} موضوعاً مكان (أقبل) مكان يقال: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى طفق يفعل فكنى عن الإقبال بالإدبار إظهاراً للسخط ولقصد التفاؤل عليه. ومعنى الفاء في {فكذب} أنه لم يلبث عقيب رؤية الآية الكبرى أن بادرها بنقيض مقتضاها لفرط عتوّه ورسوخ تفرعنه. ومعنى (ثم) في {ثم أدبر} تراخي الرتبة فإن الهرب من الحية مع ادعاء الربوبية مما لا يجتمعان وكذا السعاية والمكيدة بين الناس {فحشر} جنوده للتشاور أو لجمع السحرة {فنادى} في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر منادياً.
وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ما قال. وانتصب {نكال الآخرة} على أنه مصدر مؤكد كأنه قيل: نكل الله به نكالاً وهو مصدر كالتنكيل مثل السلام والتسليم.
قال الحسن وقتادة: عذاب الآخرة الإحراق وعذاب الأولى الإغراق.
وقيل: الآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون. ثم اختلفوا فعن مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس أن كلمته الأولى {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] والثانية {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] وبينهما أربعون سنة أو عشرون، وفيه دليل على أنه تعالى يمهل ولا يهمل.
وذكر قوم واستحسنه القفال أن كلمته الأولى تكذيب موسى حين أراه الآية، والأخرى هي قوله: {أنا ربكم الأعلى} وقد يدور في الخلد أن كلمته الأولى هي قوله: {أنا ربكم} والآخرة وصفه بالأعلى فإنه لو اقتصرعلى الأولى لم يكن كفراً بدليل قول يوسف {ارجع إلى ربك} [يوسف: 50] {إنه ربي أحسن مثواي} [يوسف: 23] لكنه لما وصفه بـ: {الأعلى} صار كفراً فأخذه بالأولى والآخرة.
قال الإمم فخر الدين الرازي: إن العاقل لا يشك في نفسه أنه ليس خالق السموات والأرض وما بينهما، فالوجه أن يقال: إن فرعون كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والجزاء وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي سواي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم. وأقول: كما أن نسبة الإنسان خلق العالم إلى نفسه يوجب الحكم عليه بالجنون وسخافة العقل فالقول بنفي الصانع ونسبة وجود الأشياء إلى ذواتها مع تغيرها في أنفسها يوجب الحكم عليه بعدم العقل فما الفرق بين الأمرين؟ وأيّ استبعاد في ذلك وقد قال الله تعالى: {إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى} [العلق: 7] وسكر الدنيا أشدّ من سكر الخمر فإن الثمل من الخمر يرجى صحوه والثمل من شراب حب المال والجاه الطافح من خيال الرياسة لا ترجى إفاقته. ثم ختم القصة بقوله: {إن في ذلك} الحديث أو النكال وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به المعتبر {لعبرة لمن يخشى} أي يكون من أهل الخشية لا القسوة. ثم خاطب منكري البعث بقوله: {أأنتم أشدّ} أي أصعب {خلقاً أم السماء} فنبههم على أمر معلوم بالمشاهدة وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة. وإذا كان الله قادراً على إنشاء العالم الأكبر يكون على خلق العالم الأصغر بل على إعادته أقدر. ثم أشار إلى كيفية خلق السماء فقال: {بناها}.
وفيه تصوير للأمر المعقول وهو الإبداع والاختراع بالأمر المحسوس وهو البناء. ثم ذكر هيئة البناء فقال: {رفع سمكها} وهو الامتداد القائم على كل من امتدادي الطول والعرض. فإذا اعتبر من السفل إلى العلو يسمى سمكاً، وإذا اعتبر بالعكس يسمى عمقاً. وذكر أهل التفسير أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام. ولأهل الهيئة طريقة أخرى قد برهنوا عليها في كتبهم. قوله: {فسوّاها} زعم أصحاب الهيئة أن المراد بهذه التسوية جعلها كرية ولا ضرر في الدين من هذا الاعتقاد. وحملها المفسرون على تمام التأليف أو على نفي الفطور عنها.
وأقول: من الجائز أن يراد بها جعلها طبقات مرتبة كقوله: {فسوّاهن سبع سموات} [البقرة: 29] الغطش الظلمة يقال: غطش الليل وأغطشه الله. ويقال: أغطش الليل أيضاً مثل أضاء وأظلم. وعبر بالضحى عن النهار لأن الضحى أكمل أجزائه في النور والضوء. وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما بسبب غروب الشمس وطلوعها الحادثين بسبب حركة الفلك قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} قد مر تفسير الدحو في أول سورة (البقرة) وأن بعدية دحو الأرض لا تنافي تقدّم خلق الأرض على السماء في قوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] قال أهل اللغة: دحوت أدحو ودحيت أدحى لغتان في حديث على: اللهم داحي المدحيات أي باسط الأرضين السبع. وقد يروى عن ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جريج أن قوله: {بعد ذلك} يعنى مع ذلك كقوله: {فك رقبة} إلى قوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] أي كان مع هذا من أهل الإيمان بالله. ونصب {الأرض} {والجبال} فيما يجيء بإضمار دحى وأرسى على شريطة التفسير.
قال المفسرون: أراد بالمرعى جميع ما يأكله الناس والأنعام فيكون الرعي مستعاراً للإنسان ولهذا قال: {متاعاً} أي فعل كل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم. حين فرغ من دلائل القدرة على البعث رتب عليه شرح يوم القيامة. والطامة الداهية التي لا تطاق من قولهم طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في المشي والجري فإذا وصفت بالكبرى كانت في غاية الفظاعة ونهاية الشدّة، وفي أمثالهم (جرى الوادي فطم على القرى) وهو مفرد وجمعه أقرية وقريان وهي الجداول والأنهار. وأصل الطم الدفن والغلب فكل ما غلب شيئاً وقهره وأخفاه فقد طمه.
وقيل: الطامة النفخة الثانية عن الحسن.
وقيل: هي الساعة التي يساق بها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
قال جار الله: {يوم يتذكر} بدل من {إذا جاءت} لأنه إذا رأى أعماله مدوّنة مكتوبة تذكرها وكان قد نسيها. قوله: {وبرزت الجحيم لمن يرى} كقولهم (قد بين الصبح لذي عينين) وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد فعلى هذا يكون استعارة ولا يجب أن يراها كل أحد لأن الإخبار إنما وقع عن كونها بحيث لا تخفى على ذي بصر لا عن وقوع البصر.
وقيل: إنها برزت الجحيم ليراها كل من له بصر وعلى هذا يجب أن يراها كل أحد إلا أن المؤمنين يمرون عليها كالبرق الخاطف، وأما الكافرون فيقعون فيها فكأنها برزت لأجلهم فقط، وبهذا الاعتبار قال في موضع آخر: {وبرزت الجحيم للغاوين} [الشعراء: 91] وقوله: {طغى} إشارة إلى فساد القوى النظرية فإن من عرف الله بالكمال عرف نفسه بالنقصان فلم يصدر عنه الطغيان. قوله: {وآثر الحياة الدنيا} رمز إلى اختلال القوّة العمليةي فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. واللام في {المأوى} للعهد الذهني أي مأواه اللائق به ولهذا استغنى عن العائد ولا حاجة إلى تكلف أن الألف، واللام بدل من الإضافة. قوله: {خاف مقام ربه} نقيض طغى. قوله: {ونهى النفس} الأمارة {وآثر الحياة الدنيا} فهذا الشخص إذا كامل في قوّته النظرية والعملية.
وتفسير {خاف مقام ربه} قد مر في سورة الرحمن.
{ونهى النفس} ضبطها وتوطينها على متاعب التكاليف من الأفعال والتروك.
ثم إن المشركين كانوا يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الطامة والحاقة وغيرهما من أسماء القيامة فيسألون {أيان مرساها} أي زمان إرسائها وهو إقامة الله إياها وقد مر في آخر (الأعراف).
وعن عائشة رضي الله عنها «لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت». وقوله: {فيم أنت} على هذا تعجب من كثرة ذكره لها كأنه قيل: في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها حرصاً على جوابهم إلى ربك منتهى علمها لم يؤته أحدًّا من خلقه. ويجوز أن يكون قوله: {فيم أنت من ذكراها} من تتمة السؤال أي يسألونك فيم أنت من العلم بها. ويحتمل أن يكون فيم إنكار سؤالهم أي فيم هذا السؤال. ثم قيل: أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت آخر الرسل وخاتم الأنبياء ذكر من أذكارها وعلامة من علاماتها فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقته كالموت {إنما أنت منذر} لا تتعداه إلى العلم بالغيب الذي العلم بالساعة جزئي منه. وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك. ثم أخبر أنهم حين يرون الساعة يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا.
وقيل: في القبور. روى عطاء عن ابن عباس أن الهاء والألف صلة والمعنى لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى.
وقال النحويون: فيه إضمار والتقدير إلا عشية أو ضحى يوم تلك العشية على أن الإضافة في {ضحاها} يكفي فيها أدنى ملابسة وهو هاهنا إجتماعهما في نهار واحد.
قال صاحب الكشاف: فائدة الإضافة الدلالة على أن مدة لبثهم كانها لم تبلغ يوماً كاملاً.
قلت: سلمنا أن هذه الفائدة مفهومة من عبارة القرآن إلا أنها تحصل أيضاً بتقدير عدم الإضافة كما لا يخفى فلا يصح أن تسند الفائدة إلى الإضافة وحدها. فالوجه أن يقال: فائدة الإضافة أن يعلم أن مجموع الدنيا في ظنهم كيوم واحد وزمان لبثهم في الدنيا كساعة منه عشية أو ضحاها نظيره قول القائل (ما سرت إلا عشية أو ضحى) فإنه لا يفهم منه إلا السير في بعض يوما مّا، وقد تكون العشية من يوم والضحى من يوم آخر. ولو قال (إلا عشية أو ضحاها) لم يمكن أن يكون السير إلا في أحد هذين الوقتين من يوم واحد.
قال بعضهم: فائدة الترديد أن زمان المحنة يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة يعبر عنه بالضحى فكأنه قيل: ما كان عمرنا في الدنيا إلا هاتين الساعتين. أقول: ويحتمل أن يقال إن مبدأ اليوم بليلته كان قبل شرعنا في أكثر الأديان من نصف النهار وقد صار المبدأ في شرعنا من أول الفجر وكأنهم حين أرادو التعبير عن بعض اليوم.
قالوا: إن كان المبدأ من نصف النهار فنحن لم نلبث إلا عشية وهو ما بعد الزوال إلى الغروب، وإن كان المبدأ من أول الفجر فلم نلبث إلا من الفجر إلى الضحى فلعل هذا هو السر في تقديم العشية على الضحى مع رعاية الفاصلة والله أعلم بأسرار كلامه. اهـ.